الرد الواضح.. على التضليل الفاضح.. الأستاذ يوسف عبد القاوي عضو مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء

أصيب متتبعي المستجدات التشريعية وعلى الخصوص قانون المسطرة المدنية بالصدمة والذهول وهم يطلعون على مقال منسوب إلى السيد وزير العدل يجيب عن “سؤال الدستورية” بعد المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب، يخلط بين عدم دستورية بعض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية وعدم دستورية مسطرة التشريع التي اتبعت لاعتماده، وكل ذلك بعنف لفضي غير مسبوق لا يرفع لبسا، ولا يوضح غموضا، ولا ينور رأيا عاما، وباستعمال مفاهيم وتعابير تنهل من معجم التشنج وضيق الصدر في مواجهة النقد البناء.

وما إن يلقي القارئ نظرة خاطفة على هذا المقال الذي أسمي تنويرا حتى يتذكر قصة ذلك التلميذ الذي يتناول دائما موضوع الحديقة كلما طلب المعلم من تلاميذه تحرير إنشاء، وحينما طلب منهم ذات مرة كتابة موضوع حول الطائرة، تفتقت عبقريته وكتب بأنه ركب الطائرة ومباشرة بعد إقلاعها سقطت في الحديقة، وصار يصف هذه الأخيرة وبذلك دخل في صلب موضوعه المفضل.

فلم يسبق لأي معارض للمشروع أن تطرق أو ناقش صحة الإجراءات المتبعة لإقرار هذا المشروع من عدمه، والحال أن المطروح للنقاش والمآخذ تنصب على عدم مطابقة بعض المقتضيات للاتفاقيات الدولية وللدستور وليس إجراءات التشريع داخل البرلمان، ولم يتم أبدا اختزال المآخذ في حدود المادة 17 من المشروع.

وبحسب كاتب المقال فإنك إن كنت معارضا للمشروع أو كانت لديك تحفظات وملاحظات فأنت: “لست مراقبا معقولا بل تحكمك حسابات سياسوية أو فئوية ضيقة” و”تقول عن غير معرفة بمخالفة المشروع للدستور ومبادئه الكبرى، في ضرب صارخ لكل معايير النقد البناء، ومحرف للمفاهيم، ومبخس للمبادرات، ومستهدف لكل المجهودات المبذولة، من أجل تسفيه عمل المؤسسات، وصاحب قراءات شاردة للمقتضيات الدستورية والقانونية، وخارج بشكل واضح عن ما تنص عليه الوثيقة الدستورية، وما يقره القضاء الدستوري بهذا الخصوص، ومجرد محاول لممارسة نوع من الوصاية على إرادة ممثلي الأمة، وعلى صلاحياتهم الدستورية، وخارج إطار كل معايير الفهم السليم لمعاني عدم الدستورية”.

وكان حريا بكاتب المقال الموقع باسم وزير العدل، حسب تعبير الأستاذ عبد الكبير طبيح، الإشادة بكل وجهات النظر العلمية الرصينة التي صاحبت هذه المبادرة التشريعية، والتنويه بالترافع الفكري والقانوني البناء، الذي شكل قوة اقتراحية جدية استهدفت تفادي القصور الذي اعترى المشروع، والثناء على جميع محاولات المساهمة في تجويده وضمان حماية حقوق المتقاضين، بعيدا عن ضيق الصدر ومواقف التشنج والتعالي وامتلاك الحقيقة التي يتعاطى بها البعض، لا سيما أن مسطرة المصادقة، تكاد تستنفذ جميع مراحلها بعد المصادقة على المشروع من طرف مجلس النواب، فكل الكتابات التي نشرت، والندوات التي عقدت، والمذكرات التي قدمت، عبرت عن انفتاح المحامين وحرصهم على تجويد النصوص القانونية ووضع أصبعهم على الداء، وإثارة الانتباه إلى مكامن الخلل، في إطار ترافع فكري وقانوني بناء، جاد وهادف كما هي عادتهم.

كما تجاهل محرر المقال أدبيات جمعية هيئات المحامين بالمغرب التي طالما نادت من خلال توصيات مؤتمراتها بتوسيع مجال تدخل المحامين في جميع القضايا تحقيقا للولوج المستنير والمتبصر للعدالة وذلك من خلال دعوة وزارة العدل والحريات للقيام بكل الإجراءات الضرورية لمراقبة وضبط جميع المتدخلين في مهام الدفاع، ومراقبة ممارسة مكاتب الاستشارات وشركات التحصيل وتطبيق المقتضيات القانونية في مواجهتها.

كما طالبت بإلزام الدولة والمؤسسات العمومية وشبه العمومية بتنصيب محام في جميع القضايا التي تكون طرفا فيها، وبإلزامية تنصيب المحامي في جميع القضايا دون استثناء، وبإلزامية التعاقد بالنسبة للنوادي والهيئات والجمعيات الرياضية مع محام أو محامية.

وفضلا عن المادة 17 المرفوضة جملة وتفصيلا لمسها بقوة الشيء المقضي به وباستقرار المعاملات وبالأمن القضائي عموما فإن المآخذ بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية كثيرة ومسنودة.

مشروع قانون المسطرة المدنية يتجاهل مبدأي “تقريب القضاء من المتقاضين” و”القضاء في خدمة المواطن”:
لا شك أن القضاء هو المحفز والمحرك والمشجع على الاستثمار، وتقريب القضاء من المتقاضين، وتيسير الولوج إلى العدالة يعد أحد مقومات تحقيق المحاكمة العادلة، وأحد أسس دولة الحق والقانون.
وقد عكس مشروع قانون التنظيم القضائي هذا النقاش، وحسم الأمر تقريبا باتجاه توفير خدمة قضائية قريبة من إقامة المتقاضي، وأنهى تقريبا، في سبيل ذلك تجربة التخصص التي عرفها المغرب لعقدين من الزمن في المجالين الإداري والتجاري.
لكن مبدأ تقريب القضاء من المتقاضين لا يمكن اختزاله في حدود تقريب بنايات المحاكم من المتقاضين، على أهمية هذا التدبير، لأن المفهوم أشمل وأوسع، بل يتجاوز ذلك إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من المستجدات على مستوى العمل القضائي، وكذا المستجدات المرتبطة بحماية المتقاضي باعتباره مستهلك لمنتوج العدالة.
وكلنا يتذكر كيف أنه بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لسنة 2010 أسس جلالة الملك مفهوما جديدا لإصلاح منظومة العدالة: “القضاء في خدمة المواطن”. لشمولية المفهوم، وإلزاميته لكل سلطات الدولة وأجهزتها، تنفيذية كانت أو نيابية أو قضائية.
وفي هذا الصدد جاء في الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لشهر أكتوبر2010 إلى أنه”: على غرار مبادرتنا للمفهوم الجديد للسلطة، الهادف لحسن تدبير الشأن العام، فقد قررنا أن نؤسس لمفهوم جديد لإصلاح العدالة، ألا وهو”القضاء في خدمة المواطن” وإننا نتوخى من جعل “القضاء في خدمة المواطن” قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها ونزاهة أحكامها وحداثة هياكلها وكفاءة وتجرد قضاتها وتحفيزها للتنمية والتزامها بسيادة القانون في إحقاق الحقوق ورفع المظالم”.
إن الالتزام وعلى أعلى مستوى في الدولة بإصلاح المنظومة القضائية، عبر ترسيخ “المفهوم الجديد للعدالة”، بجعلها أكثر قربا وخدمة للمواطن، أي أن القيام “بالإصلاح الجوهري للقضاء” يدخل في إطار المحافظة على المكاسب الهامة، كل ذلك في سبيل توطيد الدولة القوية، بسيادة القانون، وترسيخ حقوق الإنسان في أبعادها الشمولية، وجعل الإنسان في صلب التنمية.
مشروع المسطرة المدنية يقيد الحق في الولوج إلى العدالة ويمس بمبدأ التقاضي على درجات:
مفهوم المحاكمة العادلة، كما هو معلوم مفهوم شمولي يبدأ من التشريع القانوني إلى تيسير سبل اقتضاء الحق بشكل سلس، وسلامة الإجراءات أثناء سريان الدعوى والحكم فيها وضمان الطعون وكذا فعالية التنفيذ حينما يصير الحكم نهائيا، فكل هذه المراحل يشملها مبدأ المحاكمة العادلة، وقد تم التراجع من خلال مشروع قانون المسطرة المدنية عن الحقوق المكتسبة بخصوص الشروط الأساسية للمحاكمة العادلة.

فمشروع قانون المسطرة المدنية يتضمن مقتضيات تمنع أو تقيد حق المواطن الأساسي في التقاضي، من خلال فرض غرامات على من يتقدم بدعاوى يعتبرها مبنية على سوء النية، هذه المقتضيات تكرس تمييزا على أساس المستوى الاجتماعي، حيث أنها تخدم مصالح فئة معينة على حساب محدودي الدخل الذين سيجدون أنفسهم ممنوعين من التقاضي.

وهكذا فإن مشروع قانون المسطرة المدنية يعاقب المتقاضي، الذي يلجأ إلى المحكمة للحصول على حقوقه، بغرامة لا تقل على 10.000 درهم إذا ما اعتبر القاضي أن المواطن يتقاضى بسوء نية، وإذا تم رفض التعرض أو التجريح الذي تقدم به، مع أن الدستور يضمن له حق الدفاع عن نفسه والولوج للعدالة والمحاكمة العادلة. (المادتين 10 و62 من المشروع).

كما جاء مشروع قانون المسطرة المدنية بمقتضيات تجهز على الحق في الاستئناف والطعن بالنقض، حيث لن يحق للمواطن استئناف حكم في قضية ما، إلا إذا تجاوزت قيمتها 40 ألف درهم، ولا يحق له الطعن بالنقض إلا إذا تجاوزت القيمة 80 ألف درهم، (المادتين 30 و 375 من المشروع) وهو ما يعد تراجعا عن المكتسبات واستهانة بالمواطن الضعيف الذي قد تحدد هذه المبالغ مصير حياته بأكملها، فقد يكون مبلغ 40.000,00 وحتى 80.000 درهم بالنسبة لمهندسي هذا المشروع لا يعني شيئا إلا أنه يعني الشيء الكثير بالنسبة للمواطن البسيط ذو الدخل المحدود، وهذا التدبير يبقى خدمة مجانية للمؤسسات المالية والشركات الكبرى عبر جعلها تستفيد من أحكام نهائية من الدرجة الأولى، وإعفائها من إلزامية التقاضي بواسطة محام مع محاولات سابقة لإعفائها حتى من الرسوم القضائية.

كما رفع المشروع من المبالغ المتعلقة بممارسة إعادة النظر بين 3000 و4000 و5000 في كل مرحلة من مراحل التقاضي وهو ما لا ينسجم ولا يتماشي مع الحق في اللجوء إلى القضاء لتصحيح ما يمكن تصحيحه.

إن الحق في المحاكمة العادلة وفي حكم يصدر في أجل معقول يستدعي إجراءات مواكبة من أجل توفير الخدمات القضائية، وتجهيز البنية التحتية، والموارد البشرية، وليس معالجة هاته المشاكل عن طريق تقييد وتقويض حق التقاضي وتغريم المتقاضين.

إن الحق في الولوج للعدالة، تكرسة مجموعة من المواثيق الدولية لعل أبرزها المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المتعلقة بالولوج إلى العدالة والمحددة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، والمبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة، ومبادئ بنغالور المنظمة للسلوك القضائي والمبادئ الأساسية بشأن دور المحامين والشروط المعيارية الدنيا والأولية لضمان الولوج العادل للعدالة.
وسبق وأن، تبنت المجموعة الدولية القرار عدد 67 1عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 شتنبر 2012، عن عزمها على ضمان “حق الجميع، بمن فيهم الأفراد المنتمون إلى فئات مستضعفة، في اللجوء إلى العدالة على قدم المساواة”.
أما قرار الجمعية ذاتها حول حقوق الإنسان في المنظومة القضائية المتبنى في 16 نونبر 2012 فإنه يلح بشكل خاص على جانب متعلق جوهريا بالولوج إلى العدالة، هو الحصول على خدمات المساعدة والاستشارة القانونية.
وفي نفس الاتجاه، حث إعلان جوهانسبرغ حول تطبيق مبادئ الأمم المتحدة وتوجيهاتها بشأن سبل الحصول على المساعدة القضائية في نظم العدالة الجنائية (26 يونيو 2014)، الدول على إدماج الولوج العادل إلى العدالة والحصول على المساعدة القانونية ضمن أهداف برنامج التنمية لما بعد 2015.
ويحضر هذا الموضوع بقوة، من جانب آخر، ضمن أجندة الفاعلين الدوليين في مجال حقوق الإنسان، كما يؤكد ذلك، على سبيل المثال، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بالتمكين القانوني للفقراء، وإعلان لجنة الحقوقيين الدولية في 12 دجنبر 2012 المتعلق بالولوج إلى العدالة والحق في الاستئناف ضمن الأنظمة الدولية لحقوق الإنسان، وأشغال الفيدرالية الدولية لعصب حقوق الإنسان حول الضحايا والولوج إلى العدالة، وكذا أعمال منظمات غير حكومية عن مؤشر احترام القانون والولوج إلى العدالة.

كما ربط مشروع قانون المسطرة المدنية اللجوء إلى القضاء بضرورة استنفاذ مسطرة الصلح، وهو إجراء يخالف ويقيد في فلسفته وعمقه حق التقاضي الذي تكفله الفقرة الأولى من المادة 118 من دستور المملكة فلا يمكن غل يد الأجير مثلا في اللجوء إلى القضاء وهو الذي فهم أن المشغل مثلا لا يهدف سوى المماطلة والتسويف.

مشروع المسطرة المدنية يسمح لغير المحامين بمزاولة مهام الدفاع ويشرعن كيانات هجينة تتغدى من مجال عمل المحامي:
مشروع قانون المسطرة المدنية يعمل على شرعنة ولوج غرباء عن المحاكم، وهو ما يعد تهديدًا حقيقيًا للأمن القضائي، فهذا المشروع يفتح الباب أمام أشخاص ليست لهم أية علاقة بالمجال القانوني للحضور في الجلسات بالمحاكم مما يمثل تهديدا لمجهودات الدولة في محاربة الفساد.

فقد خلق مشروع قانون المسطرة المدنية غطاء قانونيا لممارسة السمسرة بالمحاكم عبر ما يسمى بالوكالة مما يتناقض وورش تخليق القضاء والمحاماة ومنظومة العدالة، ذلك أنه سيتم فتح الباب أمام السماسرة والمتطفلين من أجل ولوج ردهات المحاكم، بحيث نصت المادة 76 من مشروع القانون على أن تقديم الدعوى أمام محاكم الدرجة الأولى يتم بمقال مكتوب يودع بكتابة ضبط المحكمة، ويكون مؤرخا وموقعا من قِبل المدعي أو وكيله أو محاميه”، حيث جاء “مفهوم الوكيل مبهما مما يفتح الباب على مصراعيه لتدخل الأغيار في المساطر القضائية وتسهيل ممارسات الابتزاز” التي يجب محاربتها.

وتجاهلت مقتضيات أخرى من جانبها المحامي بحيث نصت على إمكانية الاستغناء على مساعدة المحامي، لكنها لا تنص على إلزامية حضوره عندما يتطلب الأمر ذلك وهو ما قد يزرع الشك في صفوف القضاة والمحامين والمتقاضين عموما، ويفسح المجال أمام العشوائية في المجال القضائي، مما يعكس إصرارا حقيقيا على التقليص من مجال تدخل وعمل المحامين.

وبهذا الخصوص نرى أن هناك ضرورة للعدول عن جميع النصوص القانونية التي تجيز، صراحة أو ضمنا، الاستغناء عن خدمات المحامي، وأن يقتصر تمثيل الخصوم أمام المحاكم على المحامين دون غيرهم، إما في إطار النيابة الأصلية، أو في إطار المساعدة القضائية مع إدخال تعديل على قانون قضاء القرب، يستثني من مقتضياته المؤسسات العمومية، والشركات، والمقاولات، وغيرها من الأشخاص الاعتبارية.

إن السماح لغير المحامين بمزاولة مهام الدفاع والاستشارة كما يحدث الآن خرقا لمقتضيات المواد 30، 31 و32 من القانون المنظم لمهنة المحاماة وبإصرار، والإبقاء على المسطرة الشفوية، هو مظهر من مظاهر المس بحق المواطن في الولوج المتبصر للعدالة، وتيسير لولوج السماسرة للمحاكم، وتضييق على عمل المحامي، وعائق أساسي أمام محاماة متطورة لكونها تسمح بالمتطفلين ومنتحلي صفة بالمس بمصالح المواطنين واستقرار معاملاتهم وأمنهم القضائي، فالمسطرة الشفوية يجب حذفها، وتكون القضايا الواردة في البنود الخمسة مسطرة كتابية، وترفع للمحكمة بواسطة محام، لأن الفئات المعنية في الأغلب الأعم فئات مستضعفة هي الأولى بالرعاية وبتوفير خدمات قضائية على مستوى متقدم من المهنية والحرفية، مع ما تستوجبه أيضا من الاستعجال الذي لا يتحقق إلا بالتمكن من المساطر والطعون وغيرها.

فطالما نادى المحامون بضرورة توسيع اختصاصاتهم الحصرية في التمثيل أمام القضاء والاستشارة القانونية، إسوة بغيرها من المهن حتى لا يترك المواطنون خاصة الفئات المستضعفة منهم، يواجهون المساطر والإجراءات القضائية بإمكانياتهم المادية والمعرفية التي لا تسمح لهم بذلك.
إن الواقع الحالي متسم بتفريخ غير مسبوق للعديد من الكيانات الهجينة التي تتغدى من مجال عمل المحامي وتزاحمه اختصاصاته بدون وجه حق، هذا فضلا عن كون مشروع قانون المسطرة المدنية بدوره يضرب في الصميم تيسير حق المواطن في الولوج المتبصر والمستنير إلى العدالة، ويضيق من مجال عمل المحامين من خلال الأمثلة التالية:
الإبقاء قضاء القرب والاستغناء عن المحامي في القضايا التي تعرض على هذا القضاء، ما أعطى فرصة للشركات الكبرى للاستفادة من خدمات العدالة دون الاستعانة بخبرات وكفاءات الدفاع، بل كانت هناك محاولات لإعفائها حتى من أداء الرسوم القضائية.
الاستمرار في إعفاء الدولة ومؤسساتها وإداراتها من الاستعانة بخدمات المحامين أمام المحاكم، على اختلاف درجاتها بما فيها محكمة النقض، والدولة في ذلك وغيرها من المؤسسات، والإدارات العمومية وشبه العمومية، تخسر الكثير من القضايا إلى جانب حرمانها من الدور الوقائي لعمل المحامي.
الإبقاء على المساطر الشفوية، على حساب المسطرة الكتابية، علما بأن المحامين مستعدين للمساهمة في الدفاع عن حقوق ومصالح هذه الفئات الاجتماعية العريضة في إطار ضوابط المساعدة القضائية.
السماح بالترافع شخصيا في مواجهة القاضي والمحامي في القضايا التي قد يكون أحدهما طرفا فيها بغاية إلغاء الإذن بالتقاضي، مما من شأنه المس بهيبة مؤسسات لها حرمتها، وللدولة والمجتمع مصلحة في أن تبقى لها هيبتها. (المادتين 75 و372 من المشروع).
ومن خلال قوانين أخرى:
إحداث الوكيل القضائي للمملكة، والسماح لها بممارسة دور الدفاع.
إحداث المساعد القضائي للجماعات المحلية، والذي لا يمكن أن يوفر بديلا للمهام والخدمات التي توفرها مهنة المحاماة، حيث تم التنصيص عليه من خلال المادة 285 من مشروع القانون التنظيمي رقم 14.113 المتعلق بالجماعات المحلية والذي منحه حق تقديم النصائح والاستشارات والترافع باسم الجماعات المحلية وتمثيلها مقابل أتعاب.
خلق مؤسسة المستشار في الملكية الصناعية، الذي أحدثه القانون 13.23 المغير والمتمم للقانون 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6318 بتاريخ 18.12.2014، والذي يحق له القيام بجميع الإجراءات دون حاجة إلی توكيل.
خلق مؤسسة المستشار القانوني، الذي نص عليه القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة الصادر في الجريدة الرسمية العدد 6276 بتاريخ 24 يوليو 2014.
خلق وكيل الأعمال محرر العقود الثابتة التاريخ، الذي تنظمه مشروع القانون عدد 12.88.
خلق المستشارين القانونيين التابعين للأمانة العامة للحكومة.

مشروع المسطرة المدنية لا يضمن تسريع وتيرة معالجة القضايا ولم يقارب إشكالية التبليغ بالعمق المطلوب.
لقد كانت ولا زالت هناك ضرورة لسن مقتضيات بمشروع المسطرة المدنية، تمكن من البت في القضايا داخل أجل معين، لكن ذلك لا يمكن أن يتأتى إلا عبر الوقوف على حاجيات المحاكم وإيجاد الحلول للصعوبات التي تعترض سيرها سواء على مستوى التجهيز والموارد البشرية.
والملاحظ أن المشروع لم يعالج إشكالية التبليغ من جدورها، فقد نص المشروع على ﺃﻧﻪ: “يمكن للمدعي ﺃﻭ محاميه أو وكيله، بمجرد تعيين تاريخ الجلسة، أن يتسلم الطيات المتعلقة بالاستدعاء، وجميع إجراءات الملف القضائية الأخرى، متى أرفق مقال الدعوى بكل الوثائق والمستندات المثبتة له، وذلك ﺗﺤﺖ ﻃﺎﺋﻠﺔ عدم القبول بعد توجيه الإنذار له، قصد السهر على تبليغها إلى المدعى عليه أو من له المصلحة من أطراف الدعوى بواسطة مفوض قضائي” وهو أمر لا يستقيم، إذ لا يمكن ترتيب جزاء عدم القبول على عدم سهر دفاع المدعي على الاستدعاء لأن في ذلك إضافة شرط آخر إلى شروط قبول الدعوى إلى جانب الأهلية والصفة والمصلحة.
وﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ هذا المشروع ﺃﻳﻀﺎ ﺗﻢ ﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﻮﺭﻳﺔ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻤﻔﻮﺽ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻲ ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺒﻠﻴﻎ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻠﺠﺄ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﻃﺮﻕ ﺍﻟﺘﺒﻠﻴﻎ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺇﻻ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺗﻌﺬﺭ ﺍﻟﺘﺒﻠﻴﻎ ﺑﻮﺍﺳﻄته.
ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎن المشروع ﻗﺪ ﻓﻌل ﺧﻴﺮﺍ ﺑﺈﻟﻐﺎﺀ ﻣﺴﻄﺮﺓ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﻟﻤﺎ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺗﻌﺜﺮ ﻓﻲ ﺗﻄﺒﻴﻘﺎﺗﻬﺎ، فإن التوجه نحو الإلغاء النهائي لكل أشكال التبليغ بالبريد إلا في حالة التبليغ للخارج يبقى وجيها وله ما يفسره ويبرره، فضلا عن ضرورة إلغاء آلية التبليغ الأخرى المتمثلة في السلطة الإدارية المحلية.
ﻭﻗﺪ فعل خيرا أيضا عندما نص ﻋﻠﻰ عدم وﺟﻮﺏ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﺳﺘﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﺗﺤﺘﺮﻡ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﻤﺪﺓ ﺍﻟﻤﺤﺪﺩﺓ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺘﺒﻠﻴﻎ ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﻤﺤﺪﺩ ﻟﻠﺤﻀﻮﺭ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻠﺴﺔ ﻣﺘﻰ ﺗﻤﺴﻚ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺑﺎﻷﺟﻞ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ينسجم ﻭهاجس ﺍﻟﻨﺠﺎﻋﺔ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ، ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻧﻌﺘﻘﺪ ﺃن ﺇﺷﻌﺎﺭﻩ ﺑﺎﻟﺠﻠﺴﺔ ﺍﻟﻤﻘﺒﻠﺔ ﺩﻭﻥ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﺳﺘﺪﻋﺎﺋﻪ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ فيه الكثير من الترشيد للزمن القضائي.
ويعاب على المشروع الحالي أنه لم يحسم بشكل قطعي، ومند البداية، في اعتماد العنوان الرسمي بالنسبة للأشخاص الذاتيين المضمن ببطاقة التعريف الوطنية واعتبار التبليغ في هذا العنوان صحيح بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى، ولهذه الغاية يبقى من الضروري اعتماد موظف، كاتب ضبط محلف، ينسق مع الإدارة العامة للأمن الوطني من أجل التحقق من العنوان الرسمي المضمن ببطاقة التعريف الوطنية.
كما أنه كان من الأنجع اعتبار التبليغ بالنسبة للأشخاص الاعتباريين إلى المقر الاجتماعي المضمن بالنموذج 7 للشركات بمثابة تبليغ صحيح بغض النظر عن أية اعتبارات ودونما حاجة إلى أي شكل أو آلية أخرى من آليات التبليغ التي كانت معتمدة بما في ذلك التعليق وغيره.
كما أن الاستمرار في التنصيص على أجل الرفض وهو عشرة أيام بالنسبة للمدعى عليه الذي يرفض التوصل هو بمثابة هدية يقدمها المشرع لمن يحتقر الإجراءات القضائية، فلا يعقل اعتبار القضية جاهزة للحكم بالنسبة لمن احترم الإجراءات القضائية وتوصل بالاستدعاء ولم يحضر الجلسة لسبب أو لآخر، ومنح أجل عشرة أيام لمن رفض التوصل أصلا، فقد آن الأوان للتعاطي بالصرامة اللازمة مع كل من لا يمتثل للقضاء ولا يتعاطى بإيجابية مع مختلف الأوراق الصادرة عنه.
ومن الملاحظ أيضا أن المشروع تجاهل التبليغ الإلكتروني في عز الحديث عن رقمنة الإجراءات القضائية، وهي وسيلة فعالة ستساهم بشكل كبير في تحقيق النجاعة المرجوة والتقليص من عمر الملفات القضائية المعروضة إلا في إشارة واحدة لضرورة إدلاء المحامي بحسابه الإلكتروني لتبليغه إجراءات التنفيذ من خلال مقتضيات المادتين 481 و482.
بخصوص المحاولات اليائسة للاستنجاد بمؤسسات دستورية قصد تمرير المشروع:
بعدما اشتد الخناق على واضعي مشروع قانون المسطرة المدنية بسبب الانتقادات الواسعة لمضامينه وهي التي تصر على تمريره على علاته وخاصة خرقه لمقتضيات الدستور والاتفاقيات الدولية، فقد عبر رئيس مجلس النواب عن الرغبة في إحالة المشروع (كليا أو جزئيا الله أعلم) على المحكمة الدستورية التي يعتبر مبرر وجوده تعزيز دولة القانون، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وذلك من أجل استقصاء رأيها بخصوص مطابقة تلك المقتضيات للدستور من عدمه وذلك بعدما كان السيد وزير العدل يتحدث بثقة ويجزم بدستورية تلك المقتضيات.

ولا شك أن مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية تمس بمبدأ المساواة الذي تكرسه مقتضيات المادة 6 من الدستور التي تساوي بين الأشخاص الطبيعيين والاعتبارين ولا تميز بينهم، كما تخرق مبدأ المساواة حيت تسقف الحق في اللجوء إلى درجات التقاضي الأعلى في مبالغ مالية، وتخرق مقتضيات المادة 118 من الدستور عندما تقيد وتقوض الحق في اللجوء إلى القضاء عبر إغراقها لهذا النص بالغرامات وغيرها كثير مما يجعل من هذا النص تحث شقف الدستور بكثير، كما تخرق مقتضيات المواد 120 من الدستور عبر مسها بالحق في المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع، وبمقتضيات المادة 126 عبر مسها بالطابع الإلزامي للجميع بخصوص الأحكام النهائية (المادة 17).

وعبر أيضا السيد وزير العدل نفسه عن اعتزامه إحالة المشروع على مجلس المنافسة للقول بأحقية المحامين في احتكار التمثيل أمام القضاء من عدمه، مع أن الاحتكار المتحدث عنه ليس بمفهومه الاقتصادي بل المقصود به أن التمثيل أمام القضاء والإدارات العمومية والمجالس التأديبية ومنح الاستشارة هي اختصاص حصري لمؤسسة تسمى المحامي منحها إياه المشرع والاتفاقيات الدولية بحكم تكوينه وتخصصه، كما يتخصص حصريا العدول في تحرير عقود الزواج والنيابة العامة في تسطير المتابعات، والقضاة في إصدار الأحكام، وكاتب الضبط في تحرير محاضر الجلسات وهكذا.

فطبقا لأحكام الفصل 166 من الدستور، يعتبر مجلس المنافسة مؤسسة مستقلة مكلفة، في إطار تنظيم المنافسة الحرة والعادلة، بضمان الشفافية والعدالة في العلاقات الاقتصادية، لا سيما من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار.

ولعل التفكير في إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية يعكس بعمق عدم استيعاب لمهنة المحاماة ومبرر وجودها ومكانتها ودورها وينزلها منزلة النشاط التجاري.

ولو كان مجلس المنافسة مختصا للنظر في منافسة مهنة المحاماة لمؤسسات أخرى هجينة تفتقر للتكوين والصفة فإنه أول من سينادي بإلغاء ما يسمى بالمستشار القانوني، الذي نص عليه القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة الصادر في الجريدة الرسمية العدد 6276 بتاريخ 24 يوليو 2014، والذي جعل من مجلس المنافسة جهة تنظر في الممارسات غير القانونية المنافية لقواعد المنافسة وحرية الأسعار وعمليات التركيز الاقتصادي، هذا القانون أورد مصطلح حقوق الدفاع غير ما مرة حيث جاء في مادته 33 عن كيفية انعقاد جلساته: “..يمكن للأطراف المعنية أن يستعينوا أو يمثلوا بمستشارين قانونيين من اختيارهم”.. والمساطر المتبعة أمام مجلس المنافسة تتقاطع مع تلك المتبعة أمام المحاكم العادية مثل مسطرة المقرر وقواعد التقادم وغيرها كما أن قرارات مجلس المنافسة تقبل الطعن بالنقض أمام الغرفة الإدارية لمحكمة النقض أو الاستئناف أمام محكمة الاستئناف بالرباط وذلك حسب طبيعة القرار، وللإشارة لم يأت هذا القانون على ذكر المحامي.

إن قانون مهنة المحاماة نفسه يمنع على المحامي ممارسة التجارة، فهو لا يبيع سلعة ولكن يقدم خدمة، مقابلها ليس ثمنا ولكن أتعابا، واختصاصاته يستمدها من القانون بحكم تكوينه ومؤسساته وتأمينه على المسؤولية المدنية وتعدد الضمانات التي يقدمها للموكل فهل سيتم الاحتكام لمجلس المنافسة بخصوص احتكار مؤسسة النيابة العامة لتسطير المتابعات واحتكار القاضي لإصدار الأحكام واحتكار الطبيب لإجراء العمليات الجراحية وهكذا وهو الأمر الذي لا يستقيم حتى التفكير فيه.

17 août 2024
Aller à la source Belgium-Times.BE
Author: abdelaaziz6